مناورة تندوف: كيف تصنع الجزائر “تباينات القيادة” داخل البوليساريو لرفع كلفة المفاوضات؟
بقلم حمزة بوست – تحليل رأي سياسي |
مدخل إلى المناورة
عرفت جبهة البوليساريو في الأسابيع الأخيرة موجة من التصريحات المتباينة حول مستقبل وقف إطلاق النار والعودة إلى المسار التفاوضي. وقد ظهرت هذه “الأصوات المختلفة” في توقيت حسّاس مباشرة بعد أن فرض القرار الأممي الأخير 2797 مساراً جديداً يقود بشكل واضح نحو ترسيخ مبادرة الحكم الذاتي المغربية كإطار وحيد واقعي للتسوية.
القراءة البسيطة لهذه التباينات قد تفترض أنها ناتجة عن خلافات داخلية أو صراع أجنحة داخل الجبهة. لكن القراءة الأكثر عمقاً – المدعومة بالتاريخ والسياق السياسي – تكشف أن ما يجري ليس سوى مناورة قديمة متجددة تشرف عليها الجزائر، التي تسعى عبرها لخلق صورة “انقسام داخلي” يمكن تحويله إلى ورقة ضغط قبل العودة لطاولة المفاوضات.
التباين داخل البوليساريو ليس انعكاساً لصراع داخلي، بل جزء من إستراتيجية جزائرية لرفع كلفة التهدئة قبل المفاوضات.
هل التباينات داخلية فعلاً؟
من الناحية الواقعية، لا تمتلك البوليساريو استقلالية القرار. القيادة الفعلية السياسية والعسكرية والمالية للجبهة توجد في الجزائر، وتحديداً داخل أجهزة صناعة القرار التي تتعامل مع الملف من زاوية جيوسياسية لا من زاوية “تمثيل سكان”.
جميع القرارات الكبرى – إعلان الحرب، وقف إطلاق النار، التصعيد الإعلامي، أو حتى قبول لقاءات المبعوث الأممي – كانت دائماً تُتّخذ خارج المخيمات. لذلك من الصعب تصديق أن الجبهة أصبحت فجأة تعيش “تبايناً داخلياً حقيقياً”.
بل إن ما يبدو اليوم كاختلاف بين “حمائم” و“صقور” داخلها هو في الحقيقة تقسيم وظيفي تتحكم فيه الجزائر، هدفه خلق صورة توحي بأن الجبهة تواجه ضغطاً داخلياً من القواعد، وبأن أي هدوء مع الأمم المتحدة يحتاج ثمناً سياسياً.
كيف تُنتج الجزائر صورة "الصراع الداخلي"؟
تاريخياً، اعتمدت الجزائر على منهجية محددة لإدارة الجبهة، تتلخص في خلق واجهات متعددة داخلها، تظهر أحياناً كمجموعات متباينة، لكنها في الحقيقة تنفذ وظائف مختلفة:
- مجموعة مهمتها رفع السقف الإعلامي ورفض الهدنة
- مجموعة تتحدث بلغة التهدئة و“العقلنة”
- مجموعة ثالثة تُسرب الأخبار المتناقضة لتعزيز الضبابية
هذه الدينامية المصطنعة تُعطي الانطباع بوجود حياة سياسية داخلية، بينما الحقيقة هي أن كل هذه “الأجنحة” تتحرك وفق توجيه خارجي. الهدف هو خلق صورة يمكن تقديمها للمجتمع الدولي عند الحاجة: “الوضع داخلي معقد، نحتاج تنازلات حتى نقنع الجناح المتشدد”.
إنها ليست دينامية داخلية بل إخراج سياسي لصناعة ورقة تفاوضية.
ورقة الضغط قبل المفاوضات
الجزائر تدرك اليوم أن العودة إلى وقف إطلاق النار – وهو شرط أممي أساسي – تمت في سياق دبلوماسي غير مريح لها. فهي تواجه ضغطاً دولياً واضحاً بعد فشلها في منع القرار الأممي الذي رسّخ مقاربة المغرب للحل.
لذلك، تعتمد الجزائر على خلق “تباين” داخل الجبهة لتقول للأمم المتحدة:
“قرار وقف النار مكلف داخلياً علينا، لذلك يجب تقديم تنازلات للمساعدة في تهدئة القواعد.”
لكن الحقيقة البسيطة هي أن سكان المخيمات لا يقررون الحرب ولا السلم، وأن أي حركة داخلية يتم تضخيمها إعلامياً فقط لزيادة رصيد التفاوض الخارجي.
القرار الأممي 2797: نقطة التحول
من الخطأ تحليل التباينات الحالية بدون فهم الوقع الكبير للقرار الأممي 2797. فهذا القرار جاء ليُنهي فعلياً مرحلة “الغموض السياسي” التي استفادت منها الجزائر لسنوات. فقد حدد القرار بوضوح أن الحكم الذاتي المغربي هو إطار الحل الواقعي والوحيد القابل للتطبيق.
الجزائر فقدت في هذا القرار أهم أوراق قوتها داخل الأمم المتحدة، بما فيها دعم بعض الدول التي كانت تعتمد عليها. لهذا، فهي اليوم تُعيد ترتيب تكتيكاتها الميدانية والإعلامية لتعويض هذا التراجع الدبلوماسي.
وعلى عكس ما تروج له الجبهة، العودة لوقف إطلاق النار لم تكن “خياراً داخلياً”، بل كانت استجابة مباشرة لميزان دولي جديد لا يسمح باستمرار التصعيد.
انعكاسات المناورة على المسار السياسي
إذا كان الهدف من المناورة هو رفع سقف المطالب أو خلق ورقة ضغط إضافية، فإن فعاليتها تبقى محدودة جداً اليوم. المجتمع الدولي لم يعد يقبل بأي طرح خارج الحكم الذاتي، والأمم المتحدة لا ترغب في العودة للمربع الأول.
أما من حيث التأثير الواقعي، فالمغرب اليوم يتحرك من موقع قوة، ويملك دعماً ديبلوماسياً غير مسبوق. في حين أن الجبهة أصبحت رهينة حسابات جزائرية داخلية وخارجية، ولا تملك هامش مناورة حقيقي.
السياق الإقليمي: صعود مغربي وتراجع جزائري
على المستوى الإقليمي، يشهد ملف الصحراء المغربية تغيرات عميقة. المغرب رسخ حضوره الدبلوماسي والسياسي كفاعل مركزي في شمال إفريقيا وغربها، ونجح في بناء شبكة دعم واسعة لخطته للحكم الذاتي. في المقابل، تواجه الجزائر تحديات داخلية وخارجية تجعل قدرتها على الاستمرار في الرهان على البوليساريو محدودة.
هذه المفارقة بين طرف صاعد وآخر متراجع تزيد من هشاشة الجبهة وتجعل كل “تباين داخلي” مكشوفاً أمام الخبراء الدوليين.
التوقعات: إلى أين تتجه الأمور؟
السيناريو الأكثر احتمالاً هو أن الجزائر ستستمر في استعمال “تكتيك التباينات” إلى حين إجبارها على الدخول في مسار تفاوضي لا مفرّ منه. كما ستعمل على الحفاظ على مستوى معين من التوتر داخل المخيمات دون الوصول إلى التصعيد الحقيقي الذي لم تعد قادرة على تحمله.
وفي المقابل، سيواصل المغرب تعزيز موقفه الدبلوماسي، مستنداً إلى دعم دولي واضح وإلى تناسق داخلي قوي حول مشروع الحكم الذاتي.
خلاصة تحليلية
إن التباين الحاصل داخل تصريحات البوليساريو ليس تعبيراً عن أزمة داخلية، بل هو انعكاس لأزمة خارجية يعيشها الطرف الداعم والموجه. الجزائر تحاول اليوم إعادة ترتيب أوراقها بعد خسارات أممية متتالية، وتستعمل الجبهة كأداة تفاوض لا أكثر.
المغرب في موقع قوة، الجبهة في موقع اتباع، والجزائر في موقع إعادة الحسابات. وهذه المعادلة هي التي ستحدد شكل المفاوضات المقبلة واتجاهها.
