السياسة الأوروبية تجاه الصحراء المغربية واستسلام الجزائر الدبلوماسي أمام إسبانيا
جاءت زيارة وزير الداخلية الإسباني إلى الجزائر لتعيد النقاش حول مسار العلاقات بين البلدين، خصوصاً بعد مرحلة طويلة من التوتر التي أعقبت تبني مدريد بشكل واضح لمبادرة الحكم الذاتي المغربية كحل واقعي للنزاع حول الصحراء. فرغم أن الجزائر كانت قد أعلنت أن استعادة العلاقات مرهونة بتراجع إسبانيا عن موقفها، إلا أن العودة تمت دون أي تغيير في الموقف الإسباني، وهو ما يعكس تحوّلاً لافتاً في مخرجات الأزمة واتجاهاتها العملية.
هذا الاستئناف غير المشروط كشف بوضوح أن الرهان على القطيعة لم ينجح في تعديل تموقع مدريد داخل الاتحاد الأوروبي، حيث تزايد رسوخ المقاربة الواقعية التي تُقدّم الاستقرار والتنمية على حساب التصعيد السياسي. ومع اتساع انخراط مؤسسات الاتحاد في دعم دمج الأقاليم الجنوبية المغربية داخل مسارات الشراكة والاتفاقيات، تقلّص هامش المناورة الجزائرية تدريجياً، لتصبح العودة أقرب إلى إعادة تموضع اضطراري منها إلى تسوية تفاوضية متبادلة.
وفي المقابل، استفاد المغرب من هذا التحول على مستويين متداخلين: ترسيخ مبادرة الحكم الذاتي كمرجعية أوروبية واقعية، وتحويل الموقف الإسباني من مجرد تأييد سياسي إلى “حاضنة مؤسساتية” داخل بروكسيل. وهكذا برز الفرق بين الطرفين: الجزائر عادت إلى التعاون من موقع أضعف، بينما وجد المغرب نفسه أمام لحظة تثبيت متقدم لوزنه داخل السياسة الأوروبية، في الاقتصاد والأمن وسلاسل ا
شهدت العلاقات الجزائرية الإسبانية خلال العامين الأخيرين واحدة من أكثر التحولات الدبلوماسية دلالة في المشهد المتوسطي، بعدما انتقلت الجزائر من مرحلة التصعيد والقطيعة الكاملة إلى العودة التدريجية نحو التعاون الأمني والمؤسساتي، دون أن تنال الشرط الأساسي الذي رفعت سقفه علناً، وهو تراجع مدريد عن تبني مبادرة الحكم الذاتي المغربية باعتبارها الحل الواقعي لقضية الصحراء. هذا التحول لم يكن مجرد خطوة تقنية أو استعادة بروتوكولية للعلاقات، بل يمثل، في جوهره، اعترافاً عملياً بأن استراتيجية القطيعة فقدت فعاليتها ولم تفلح في تغيير الموقف الإسباني، الذي ازداد قوة وتماسكاً داخل الاتحاد الأوروبي.
منذ مارس 2022، راهنت الجزائر على ممارسة ضغط سياسي واقتصادي لدفع إسبانيا إلى مراجعة دعمها الواضح للطرح المغربي، معتمدة على خطاب يقوم على فكرة “المعادلة الصفرية”: إما التراجع عن الحكم الذاتي أو استمرار القطيعة. لكن الذي حدث هو العكس تماماً، إذ لم تكتف مدريد بالحفاظ على موقفها، بل وسّعته على مستوى مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وتمكنت من تثبيته في لغة القرارات والاتفاقيات التجارية التي تشمل الأقاليم الجنوبية المغربية. وفي المقابل، وجدت الجزائر نفسها أمام واقع إقليمي متغير قادها إلى العودة نحو التعاون الأمني في ظروف لم تعد فيها شروطها الأولى حاضرة.
النتيجة السياسية لهذا المسار هي ما يمكن تسميته في الأدبيات الاستراتيجية بـ"التنازل الدبلوماسي الأحادي": أي العودة إلى العلاقات دون الحصول على مقابل، في ملف كان هو جوهر الخلاف. وهذا ما يجعل هذه العودة لا توصف كتسوية أو تهدئة متبادلة، بل كانت بمثابة اعتراف عملي بفقدان أداة الضغط الرئيسية. ومع مرور الوقت، تحوّل هذا التنازل إلى فشل استراتيجي ظاهر، لأن الطرف الذي كان يهدف إلى تعديل الموقف الأوروبي وجد نفسه مضطراً إلى التكيّف معه.
استسلام الجزائر الدبلوماسي لم يكن حدثاً مفاجئاً، بل كان خاتمة لمسار سياسي فقدت فيه أدوات الضغط الواحدة تلو الأخرى، بينما أصبح الموقف الإسباني أكثر قوة ومؤسساتية داخل أوروبا.
العودة غير المشروطة للعلاقات الأمنية تكشف بوضوح أن الجزائر لم تعد تمتلك ورقة الضغط التي كانت تراهن عليها. فإسبانيا لم تغيّر خطابها، ولم تعدل بياناتها الرسمية، ولم تفتح أي مفاوضات حول صيغة جديدة، بل هي التي فرضت في النهاية الإطار المرجعي: استمرار دعم الحكم الذاتي، وتطبيع تدريجي في الملفات الأمنية والاقتصادية دون أي مساس بالأساس السياسي الذي انطلقت منه الأزمة. هذا الترتيب يعكس ـ في لغة العلاقات الدولية ـ انتقال الطرف الضاغط إلى موقع المتكيّف.
وما يعطي للتحول وزنه الحقيقي ليس مجرد "عودة العلاقات"، بل هو التوقيت والسياق: فالعودة جاءت في ظرف أصبحت فيه المواقف الأوروبية أكثر وضوحاً تجاه أولوية الاستقرار والبراغماتية، وأصبح المغرب يتمتع بوزن تفاوضي أعلى داخل المنظومة الأوروبية بفعل المشاريع الاستراتيجية في الطاقة الخضراء والربط التجاري. أي أن الجزائر لم تتراجع فقط أمام إسبانيا، بل تراجعت أمام توازن إقليمي جديد لا يتيح لها المساحة ذاتها للمناورة كما في السابق.
إن قراءة هذا التحول من زاوية توازن القوة تكشف أن ما جرى لم يكن مجرد تغيير في الأسلوب، بل في المعنى السياسي. فالجزائر دخلت الأزمة باعتبارها الطرف المبادر بالضغط، وسعت إلى تشكيل تكلفة دبلوماسية على مدريد، لكنها خرجت منها مضطرة للعودة دون مقابل، في حين خرجت إسبانيا بمكسبين متزامنين: تثبيت موقفها داخل الاتحاد الأوروبي، واستعادة التعاون الأمني الذي تحتاجه دون تقديم أي تنازل في المقابل. هذا النوع من النتائج في لغة العلاقات الدولية لا يسمى تسوية، وإنما يسمى “تحول مركز الثقل”.
ولفهم عمق هذا التحول، يجب التأكيد أن مدريد لم تغير موقفها لا في الشكل ولا في المضمون. بل إن الأشهر التي أعقبت الأزمة شهدت ارتفاعاً في رسوخ الخطاب الإسباني داخل بروكسيل، ودفاعاً متزايداً عن دمج الأقاليم الجنوبية المغربية في الاتفاقيات التجارية الأوروبية. وبدلاً من أن تفرض الجزائر تراجعاً، وجدت نفسها أمام اتحادات مؤسساتية تدعم المقاربة المغربية باعتبارها الأكثر انسجاماً مع منطق الاستقرار والتنمية.
الأكثر دلالة هو أن عودة العلاقات مع الجزائر لم تكن نتيجة مفاوضات أو إعادة صياغة موقف سياسي، بل جاءت على شكل استئناف تقني للتعاون الأمني ومحاربة الهجرة غير النظامية. أي أن الجزائر أعادت العلاقة في نفس المستوى الذي أوقفتها عنده سابقاً، لكن مع فارق حاسم: لم يعد هناك ما يمكن انتزاعه من مدريد. وهذا ما جعل هذا التراجع يوصف في عدد من التحليلات الأوروبية بأنه “عودة اضطرارية”، لا تفاوضية.
حين تعود دولة إلى التعاون بعد قطيعة دون أن تحصل على التغيير الذي وضعت لأجله الأزمة، فإن النتيجة ليست تهدئة سياسية بل خسارة تكتيكية تتحول إلى فشل استراتيجي مع مرور الوقت.
لماذا انتصرت مدريد في النهاية؟
انتصار إسبانيا لم يكن ظرفياً، بل بنيوياً. فقد لعبت مدريد ثلاث أوراق كبرى في آن واحد: أولاً، حوّلت الملف من ثنائي إلى أوروبي، مما جعل الضغط الجزائري غير فعّال. ثانياً، اعتمدت لغة “الواقعية السياسية” التي يتبناها الاتحاد الأوروبي حالياً في محيطه الجنوبي. وثالثاً، استفادت من شراكتها المتقدمة مع المغرب التي أصبحت أحد أعمدة أمن المتوسط وسلاسل الإمداد نحو أوروبا، ما منحها قدرة تفاوضية أعلى داخل بروكسيل.
تحويل الملف من ثنائي إلى أوروبي
حين تُدار أزمة ضمن إطار أوروبي، تصبح كلفة إجبار دولة عضو على التراجع أعلى بكثير؛ إذ يتحول القرار من عاصمة واحدة إلى منظومة مؤسسات. هذا ما فعلته مدريد عندما ربطت ملف الصحراء بمنطق الاستقرار والتنمية في جنوب المتوسط، فصار التراجع عن دعم الحكم الذاتي بمثابة تراجع عن سياسة أوروبية أوسع، لا موقف وطني منفرد.
الاستفادة من الشراكة الاستراتيجية مع المغرب
بفضل مسارات الطاقة الخضراء والربط التجاري والأمني، انتقل المغرب من “شريك حدودي” إلى “شريك استراتيجي” لمدريد. ومع هذا الانتقال، بات أي ضغط على إسبانيا يمس شبكة مصالح أوروبية–مغربية أوسع، ما رفع كلفة المواجهة وخفّض جدوى القطيعة بالنسبة للجزائر.
انعكاس التحول على موقع المغرب إقليمياً
بالنسبة للمغرب، يمثل هذا التحول تعزيزاً لمسار استراتيجي طويل، حيث لم يعد دعمه في أوروبا مجرد “مساندة سياسية” بل أصبح مضموناً مؤسساتياً مرتبطاً بالاستثمار والطاقات والتكامل الاقتصادي. وهذا يعني أن أي تغيير في الموقف الأوروبي لم يعد ممكناً عبر الضغط التقليدي، لأن القضية لم تعد ملف نزاع فقط، بل جزءاً من تصور أوسع للاستقرار والتنمية في الحوض المتوسطي.
عملياً، تقاطعت الأزمة الجزائرية–الإسبانية مع صعود وزن المغرب داخل شبكات الإمداد إلى أوروبا، بما جعل تثبيت مبادرة الحكم الذاتي خياراً براغماتياً يحمي مسارات الاقتصاد والأمن. وبذلك تحولت الأزمة إلى عامل غير مباشر لتعزيز شرعية الطرح المغربي في الاتحاد الأوروبي.
دور فرنسا والاتحاد الأوروبي في تثبيت المسار
تدرك باريس أن الاستقرار جنوب المتوسط لم يعد ممكناً عبر مقاربات قديمة تقوم على “إدارة التوتر”، بل عبر تمتين شراكات استراتيجية مع الفاعلين القادرين على تأمين سلاسل الطاقة والتجارة. لذا انسجم خطابها تدريجياً مع الرؤية الإسبانية التي تعتبر الحكم الذاتي المغربي صيغة أكثر اتساقاً مع المنطق الواقعي الأوروبي. أما المفوضية الأوروبية، فتعاملت مع التحول باعتباره إعادة ترتيب لمعادلة الاستقرار في شمال إفريقيا، لا مجرد تموقع ثنائي.
المؤشرات العملية تفوق قيمة التصريحات: اتفاقيات تجارة، خطوط طاقة، تنسيق أمني، ومشاريع خضراء. ومع تزايد الوزن المؤسساتي لهذه الأنشطة، أصبح الموقف المؤيد للحكم الذاتي جزءاً من “مسار أوروبي” يصعب التراجع عنه.
اقتصاد وأمن: كلفة القطيعة وفائدة التعاون
أظهرت الأزمة أن القطيعة تُضعف الأدوات التفاوضية على المدى المتوسط، بينما يوفّر التعاون الأمني والاقتصادي مساحات أوسع للتأثير عبر المؤسسات. لذلك، فإن عودة الجزائر إلى التنسيق الأمني تعتبر اعترافاً عملياً بجدوى المقاربة التعاونية عندما تتصل الملفات بالهجرة، مكافحة الشبكات غير النظامية، والطاقة.
في المقابل، استفادت إسبانيا من استعادة قنوات التعاون دون أن تقدّم مقابلاً سياسياً، وهو ما يعني أنها خرجت بمكسب مزدوج: حماية أمنها وحدودها، وتثبيت موقفها السياسي داخل الاتحاد الأوروبي. والمغرب، من جهته، عزز رصيده كشريك يُنتج الاستقرار، وهو ما ينعكس على جاذبية الاستثمار والتنمية الإقليمية.
قراءة استراتيجية: من التنازل الأحادي إلى فشل طويل الأمد
يقود هذا المسار إلى نتيجة أوسع: حين تتحول ورقة الضغط إلى عائق أمام المصالح المباشرة، تصبح العودة دون مقابل احتمالاً مرجحاً. وهذا ما حدث عملياً؛ فالتنازل الأحادي قاد إلى فشل استراتيجي، لأن الهدف الأصلي للأزمة لم يتحقق، بل حدث عكسه: تثبيت الموقف الإسباني وتعزيز موقع المغرب داخل أوروبا.
خاتمة: نحو براغماتية تتجنب التصعيد
تكشف التجربة أن الاستقرار في الضفة الجنوبية للمتوسط يتحقق عبر مقاربات واقعية توفّق بين الأمن والتنمية، لا عبر التصعيد أو القطيعة. إن تثبيت المقاربة الداعمة لمبادرة الحكم الذاتي داخل أوروبا وفرصة التنسيق الأمني والاقتصادي يمكن أن يشكلا أرضية بنّاءة لإدارة التحديات المشتركة. وبقدر ما يبتعد الفاعلون عن منطق الصراع الصفري، يزداد احتمال البناء على المصالح المتبادلة. لذلك، تظل الدعوة إلى الحوار العملي والمسؤول هي الخيار الأجدى لتعزيز الاستقرار الإقليمي وتحصين مسارات التنمية.
